لن أغتابك -أيها المؤمن- بعد اليوم

فإنّ مجالس المؤمنين تكثر وتتنوع، وتكبر وتصغر، وتخص وتعم، تكون في شأن الدين وتكون في شؤونالغيبة الدنيا، ولكنها لا بد أن تبقى كلها -ما كان فيها من جد وما كان فيها من مباح- مطبوعة بطابع الإيمان، ومختومة بخاتم الشريعة، تعلوها الحقيقة، وتحفها السكينة، مبدؤها الصدق، ومسيرها البر، ومخرجها الأمانة، ولكن هذه السيرة -سيرة مجالس عباد الله المؤمنين- لم تعد على هذا السبيل، إلا من رحم ربك، فلقد تلوثت مجالسنا الاجتماعية اليوم، وسرى فيها من الداء ما أباد خضراءها، ورتعت فيها وربت آفات اللسان، وكان لداء الغيبة -مزلّة اللسان، وفاكهة أهل النار، وفتات البطالين اللئام- الحظ الأوفر انتشارًا، والأقوى حضورًا، والأشد مشغلة، والأسهل نثرًا ومداولة وتكلفة، ولكنها الأقسى ضررًا وفسادًا وإفسادًا ونكوصًا وحشرجة، فوقعها ليس فرديًا ولا محدودًا، بل تفسد الدنيا والآخرة، وتضر بالأسرة وبالمجتمع وبالعمل والإنتاج.
نعم -يا عباد الله- لقد تفشت الغيبة في مجالسنا، ونقشت وحفرت في ألسنتنا، فالغيبة تُسمع ويلقى بها من فوق لسان الكبير والصغير، والوالد والولد، والمعلم والمتعلم، والزوجة والزوج، والمدير والموظف، بل والعالم والمتعلم، إلا من رحم ربك.
اركب حافلة أو ادخل بيتًا، اجلس إلى زملاء في وظيفة، أو أصدقاء في رحلة، أو إلى جيران في جمعة، أو أسرة في جلسة، بل احضر لقاءً علميًا أو امكث في مسجد مليًّا، سترى الغيبة تسرح في جنبات ذلك كله، سترى أعراض المسلمين في أواسط المائدة مذبوحة وعلى حفافها منشورة، كأن بعض المسلمين اليوم قد أخذ على عاتقه عهدًا لا ينتقض، أنْ لا بد من الفتك بأعراض المسلمين واغتيابهم ولو كان ذلك بعد صلاة الفجر أو أثناء أداء مناسك الحج أو حتى على المقبرة، استخفاف ليس بعده استخفاف، وإيغال في انتهاك حرمات المسلمين ليس بعده إيغال، وتطاول ما فوقه تطاول، وغفلة ونسيان وضلال وضياع.
يهون عليك -يا أخي المسلم- تصوّر هذا، ويقوى تصديقك له إذا ركزت معي وفتحت قلبك وشحذت ذهنك واستمعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لك: ما هي الغيبة؟! يشرح لك معناها لتبصر واقعها، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟!". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ". قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟! قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرح لك طبيعة الغيبة، ويبين لك مكونات هذا الداء، إنه بكل بساطة، أن تذكر مسلمًا غائبًا بشيء يكرهه، أليس هذا المعنى واضحًا؟! ولكن في المقابل أليس ارتكاب الناس له ووقوع الناس فيه أمرًا سهلاً وهينًا وكثيرًا ومشاهدًا؟! فأي لقاء أو مجلس لويت فيه على أخيك المسلم بكلمة واحدة يكرهها منك ويتضايق لو سمعها منك فهي غيبة، فانظر -رعاك الله- إلى حالنا وإلى ألسنتنا والى مجالسنا، أهذا الفعل يكثر فينا أم يقل؟!
لقد أردت أن أضع بين يديك تعريف الغيبة لتشهد بنفسك على مدى انتشارها بيننا، وأردت أن أسمعك بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه لمعنى الغيبة حتى تدرك أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قام بنفسه بشرح هذا المعنى، وذلك لخطورته.
ويظهر لنا العجب من كثرة مشاهد الغيبة في جنبات حياتنا كلها إذا ما استمعنا إلى الإمام النووي وهو يقدم لنا تفصيلاً في معنى الغيبة وأشكالها فهو يقول: "الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز".
فمن منا لا يُواقع صورة من تلك أو شكلاً من ذاك أو فعلاً من هذا، إنها كلها تعني الغيبة، نعم الغيبة ولا شيء سوى الغيبة. يقول ابن الأثير: "الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه". فيا الله: رحمتك، ويا الله: عونك، ويا الله: توفيقك، أن لا نغتاب عبادك المؤمنين، أن لا نكون من زمرة المغتابين.
نعم، لن أغتابك -أيها العبد المؤمن-، لماذا؟! لأنك مؤمن بالله العظيم، لأنك مؤمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنت لست كافرًا بالله، ولا جاحدًا بكتاب الله، ولا منكرًا للقاء الله، ولا مكذبًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل أنت مؤمن مسلم، والمؤمن في ديننا له حرمته، والمسلم في شريعتنا له ذمته، ذلك ما شهد به وجاءنا به رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه".
فلك -يا أيها المؤمن- حرمة الإسلام وحرمة الإيمان، ولك حق الأخوة، أخوة العقيدة وأخوة الإيمان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، لذلك فلن أغتابك -يا أيها المؤمن- لن أغتابك، حفظًا لحق الإيمان فينا، وصيانة لحرمة الإسلام التي تجمعنا، وتعظيمًا لشأن الأخوة بيننا.
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! لأن الله ربي العظيم قد نهاني عن الغيبة وحرم عليّ فعلها، فقال سبحانه مخاطبًا عباده المؤمنين به: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات:12]، فتأمل معي أنّ الذي ينهانا في هذه الآية هو ربنا سبحانه، وينهانا فيها بالتحديد عن الغيبة، غيبة المؤمنين به سبحانه لبعضهم، قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا): أي: "ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه".
ولأن ربنا سبحانه توعد المغتابين فقال: (وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) [الهمزة: 1]، قال الآلوسي: "الهمز واللمز: الطعن في أعراض الناس والغض منهم واغتيابهم".
فالله يتوعد المغتاب بالويل؛ فكيف أغتابك -أيها المؤمن- بعد هذا الوعيد؟! نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن- لأن الله سبحانه قد زجر ونفّر عن الغيبة، وكره إلينا فعلها والوقوع فيها، بما لا يبقي للنفس لها ارتياحًا، فقال سبحانه واصفًا مشبهًا حال المغتاب لأخيه المؤمن: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12]، هذه الآية الخاصة في تصوير مشهد الغيبة لابد من وقفة معها، يقول ابن كثير في تفسيرها: "أي كما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا ذاك شرعًا؛ فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها".
وقال الآلوسي: "كنى عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله؛ لأنها ذكر المثالب وتمزيق الإعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه، وجعله ميتًا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته".
وقال الزمخشري: "في الآية مبالغات شتى؛ منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصوفًا بالمحبة، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخًا، ومنها أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتًا".
لأجل ذلك لن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأنني لن أقبل على نفسي أن آكل لحمك وأنت ميت، وأنت أخي، لن أغتابك أيها المؤمن طاعة لله تعالى، واستجابة لنهيه، وتعظيمًا لشرعه، وحذرًا من وعيده، وعبودية له سبحانه.
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرّم علينا -نحن معاشر المسلمين- أن يغتاب بعضنا بعضًا، ودعانا أن نكون إخوة متحابين، لا أناسًا متفرقين متباغضين، فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يغتب بعضكم بعضًا، وكونوا عباد الله إخوانًا".
لن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتهاون مع المغتابين، لم يسمح لغيبة واحدة أن تمر من بين يديه بلا حساب، لم يأذن لأحد أن يلوك عرض أخيه المسلم، بل أصدر أحكامًا قاسية في حق من وقعت منهم الغيبة في عهده ولو كانت عابرة غير مستقرة، تأمّلوا معي ذلك الموقف الاجتماعي من عالم النساء؛ ففي الحديث الحسن أن رجلاً قال: يا رسول الله: إنّ فلانة تكثر من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال –صلى الله عليه وسلم-: "هي في النار".
وتنقل لنا عائشة -رضي الله عنها- موقفًا حصل معها هي لا مع غيرها، فماذا -يا ترى- كان موقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! هل جاملها؟! هل شاركها كما يفعل كثير من الأزواج اليوم؟! حاشاه أن يفعل ذلك. تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في الحديث الصحيح: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة- فقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "لقد قلت كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته"، أي لأنتنته وغيّرت ريحه.
لأجل ذلك -يا أيها المؤمن- لن أغتابك، فها هو سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفخم شأن الغيبة، ويشير إلى أنها قد تضيع آخرة المؤمن، وأنه بغيبة واحدة فقط قد تلوث النبع الصافي والحياة الهادئة والمجتمع النقي والهواء الطلق، فكيف بغيبة وراء غيبة، وبغيبة أقسى وأكبر من مجرد إشارة عابرة أو كلمة طائرة، فماذا يمكنها أن تُحدث؟! وبماذا يمكن أن يصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-؛ لأنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتهاون مع أحب الناس إليه وأقربهم منه منزلة، فكيف معنا نحن وقد بعدنا وبعدنا.
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! لأن الغيبة كبيرة من الكبائر، فليست الكبائر محصورة في الزنا والسرقة وشرب الخمر، بل الغيبة من كبيرة من الكبائر، فلماذا أرتكب كبيرة؟! لماذا تسجل في صحيفة أعمالي كبيرة، لأجل ماذا؟! لأجل أن أذكرك -أيها المؤمن- بسوء، وبما تكره سماعه، فأي شيء كسبتُ إذا كان كلما ذكرت مسلمًا أو مسلمة بما يكرهه سجلت عليّ كبيرة من الكبائر، نعم -يا عباد الله- هذا هو حكم الغيبة؛ قال الحافظ ابن حجر: "الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة الصحيحة الظاهرة أن الغيبة كبيرة". وقال النووي: "الغيبة والنميمة محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك".
فيا أيها المؤمن: تذكر أنك كلما ذكرت أخاك المسلم في غيبته بما يكرهه فأنت فعلت حينها كبيرة، فأقلل من ذلك أو أكثر فكلٌّ بحسابه، ويا لفظاعة الأمر حينما تحسب لأولئك الذين يتفكهون بغيبة المسلمين، فقد تزيد في اليوم عن عشرين مرة يغتابون فيها غيرهم، فلو حسب ذلك جيدًا لأدرك أنه لربما في الشهر الواحد تكتب عليه أكثر من خمسمائة كبيرة بسبب الغيبة، ولكنه إذا سمع عن الكبائر قال في نفسه: أنا بعيد عنها، فأنا لا أزني ولا أشرب الخمر ولا أرابي، ولكنه في الكبائر منغمس بسبب رباه في أعراض المسلمين، وانتهاكه لحرماتهم، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"، وانظر في حال من علم فعمل، ومن فقه فخاف، يقول البخاري -رحمه الله-: "ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغيبة حرام".
نعم، لن أغتابك -أيها المؤمن-، لماذا؟! حتى لا أفسد قلبي ونفسي ومجتمعي، حتى لا أفقد احترامي بين الناس، حتى لا أكون معول هدم، نعم -يا أيها المؤمنون-، الجماعة المؤمنة طيبة الرائحة نقية السريرة، تتآلف ولا تتناكر، تتقارب ولا تتباعد، تبني ولا تهدم، ولذلك فإن من واجبي ومن واجبك أن نحافظ على هذه العلامات المضيئة، في حياتنا، في أسرنا، في جلساتنا، في وظائفنا، في مجتمعاتنا، لا أن نترك الغيبة تستفحل فيما بيننا.
وصلي الله على سيدنا محمد واجعلنا من اتباعه يوم القيامة يوم لا تنفع الشفاعة الا لمن اذن له الرحمن واجعلنا اللهم من اتباع سنته واجعلنا من رفاقه في. الجنة اللهم امين
اللهم. انا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى … ونسألك ربي العفو والعافية في الدنيا والاخرة ..
اللهم .أحسن خاتمتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة
اللهم. أحينا على الشهادة وأمتنا عليها وابعثنا عليها
الهنا قد علمنا أنا عن الدنيا راحلون، وللأهل وللأحباب مفارقون، ويوم القيامة مبعوثون، وبأعمالنا مجزيون، وعلى تفريطنا نادمون، اللهم فوفقنا للاستدراك قبل الفوات، وللتوبة قبل الممات، وارزقنا عيشة هنية، وميتة سوية، ومرداً غير مخز ولا فاضح، واجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، برحمتك يا أرحم الراحمين!وصلِّ اللهم على محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلِّ اللهم على محمد ما تعاقب ليل ونهار، وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار، وسلِّم تسليماً كثيراً، برحمتك يا عزيز يا غفار!
اللهم ارزق ناقل الموضوع و قارئ الموضوع جنانك , وشربه من حوض نبيك واسكنه دار تضيء بنور وجهك
ونسال الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل
والحمد لله رب العالمين

عمرو شعبان

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s