العادات التفكيرية

د. بندر آل جلالة
columbus-discovers-new-world
يُحكى أن قائدًا لإحدى السفن الحربيّة الغربيّة تمّ تكليفه بزيارة إحدى الجزر لتقديم تقرير عن آداب أهلها وعاداتهم، فكان ممّا أورده في التّقرير: “إنّ سكّان هذه الجزيرة ليس لديهم آداب، وأما سلوكيّاتهم فهي شنيعة”.
وقد علّق الكاتب ” روبرت ثاولست ” على هذه القصّة بقوله: “لو أنّ أحد علماء الأجناس قام بهذه الدّراسة لكان قد اكتشف أنّ لشعب هذه الجزيرة آدابًا وقوانين مدروسة بشكل دقيق، ولسوف يسجّل بموضوعيّة تلك الآداب كحقائق كما هي عندهم دون أن يصف ما يعجبه أو يغضبه”.
فهذا القائد أصدر حكمه وعبّر عن رأيه وفْق عادته التفكيريّة ونمط حياته، دون أن يوضّح -على الأقلّ- أنّ ذلك رأي يعبّر عن وجهة نظره، وليس من الضروريّ أن يكون حقيقة.
من هنا نجد أنّ كثيرًا من عادات البعض التفكيريّة على هذا النّهج، فهم يصدرون أحكامهم وفْق عاداتهم العقليّة دون أن يتفحّصوا ويدقّقوا في طريقة تفكيرهم التي اعتادوا عليها.
وهذه عدّة وقفات حول العادات التفكيريّة:
– حين يُقال كلمة “عادة” فإنّ الكثير يفهمون أنّ المقصود بذلك العادات السلوكيّة والمعيشيّة، وهذا في ظنّي فهْم ناقص؛ فهنالك ما هو أهمّ من العادة السلوكيّة وهي العادة التفكيريّة العقليّة.
وإنّ من طبيعة الإنسان تكوين عادات تفكيريّة وأخرى سلوكيّة، حيث تختلف باختلاف الثّقافة والعمر والبيئة، وكثيرًا ما يحرص النّاس على تغيير العادات السلوكيّة دون محاولة تغيير العادات التفكيريّة التي تعتبر مصدر كلّ السلوكيّات، بل نجد وفرة توعويّة في تصحيح العادات السلوكيّة وندرة كبيرة في تصحيح العادات التفكيريّة الخاطئة.
– كثير من الناس لا يعلمون أنّهم مبرمجون؛ حيث يتوهمون بأنّ كل أفكارهم وآرائهم وتصوّراتهم ومواقفهم هي ثمرة البحث والتّحقيق ونتاج العقل المتيقّظ الفاحص، ولا يعلمون أنّهم يعيشون وفق تلقائيّة غرستها بيئاتهم.
– من النّاس مَن أصبح عقله معتادًا على تقبّل عدّة أفكار ورفض أخرى، فبمجرّد أن يستقبل فكرة فإنّه وبسرعة البرق الخاطفة يقوم عقله بتحويلها للقبول أو الرفض بالشّكل الذي اعتاد عليه، دون أن يحاول تغيير وتطوير عادته التفكيريّة.
فمثلاً تجده يتصفّح الجريدة كلّ يوم، وبمجرّد رؤيته لمقال لأيّ كاتب فإنه يُصدر بسرعة حكمًا بسوء أو بحسن المقال دون أن يتوقّف ليتأمل بعقل، وهكذا نجد صاحب العادة التفكيريّة يجزم برأيه في كل قضيّة قبل أن يخضعها للنقّاش والحوار والتجرّد.
– إنّ احتلال العادة التفكيريّة للعقل من أسباب الثّبات السّلبي على الأفكار والقناعات الخاطئة، وهذا يؤدي إلى التكلّس الذهني ومنه إلى الجمود والتحجّر. فالبقاء في ذات العادة التفكيريّة أشبه بالسّجن في كبته لحريّة التّفكير، وبالآلة الميكانيكيّة في النمطيّة.
– ليس بالضروري أن يكون عدم الشكّ في الشيء أنه صحيح؛ فالإنسان حين يضفي صفة اليقينيّة على كلّ شيء في حياته سيجد نفسه بعد سنوات عديدة خارج إطار الحقيقة، فكم من أمر ظلّ البعض مصرًّا عليه بحزم وجزم ثم اتّضح لنا بعد فترة أنه لا يمكن إلاّ أن يكون في إطار الشكّ والتّساؤل.
– إنّ بعض العادات التفكيريّة قد تكون قد خدمتنا في فترة ماضية، ولكنّها قد لا تكون قادرة على التعامل مع معطيات وأنماط ونماذج جديدة.
– يصرّ البعض على قراءة أفكار من يوافقونهم ومحاورتهم والاستئناس بهم؛ لأنّ ذلك يشعرهم بالأمان والارتياح النفسي الخادع، لذا فمن الطبيعي أن يشعر البعض بالاهتزاز العقلي والنفسي حين يتمّ زعزعة عادته التفكيريّة، والبعض قد يُصاب بالغضب، ويقاوم ذلك بعنف دون أن يمنح ذهنه فرصة للتأمّل والتّفكير بطريقة مغايرة.
– ليس المقصود أن يصل الإنسان إلى الشكّ في يقينيّات وثوابت الدّين والوجود؛ لأنّ العقل الإنساني مهما عَظُمْ فلن يستطيع العيش باطمئنان دون وجود إطار عقليّ ربانيّ، ولذا فإنّ كثيرًا من الفلاسفة الذين تجاوزوا ذلك عاشوا في حيرة وماتوا على ذلك.
– يجب أنْ نتحلّى بالمرونة العقليّة، وأنْ تكون قناعاتنا وأفكارنا مستندة على فهم عميق، وليس مجرّد الاعتماد على عادة تفكيريّة؛ فالواجب أن نضع عقولنا دومًا في تفحّص ساخن حتى لا يُجمِّدها الثّلج.
الإعلان

رأي واحد حول “العادات التفكيرية

  1. حقيقةالتنوع والايمان بحق الاخر هي اولي خطوات تطويرالعادات التفكيريه
    ممايؤدي الي التعايش والتعاون الاجتماعي،فتقيم اي موقف يكون من ثلاثة محاور
    (١) وجهة نظرالاخر
    (٢) وجهة نظري الشخصيه
    (٣)وجهة نظرالقاضي والمقصود بها الحياد الناتج عن علم و رؤيه عادله

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s